أنت ذاهب وأهل القرآن باقون
بسم الله الرحمن الرحيم
قال سبحانه: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّـهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَا ۚ أُولَـٰئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ ۚ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [سورة البقرة: 114]، وقال -صلى الله عليه وسلم- : «إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين» [رواه مسلم].
كنت في مجلس فيه ثلة من كبار المشايخ وطلاب العلم نتدارس هذه النازلة التي حلت بالمنطقة الغربية في أشهر الحج بل في أقدس بقعة على وجه الأرض، وفيها بعث محمد -صلى الله عليه وسلم- ونزل عليه الوحي (اقرأ)، وما سيكون لها من آثار على المملكة العربية السعودية التي تحتضن الحرمين الشريفين، فكان الحديث ينصب على هذه الفاجعة إذ جاءت على يد من اؤتمن على الحفاظ على نظام هذه الدولة التي قامت على القرآن، ونصت على أن أنظمتها تقوم على الكتاب والسنة ومنهج سلف هذه الأمة، وقادتها يكررون صباح مساء عنايتهم بالقرآن الكريم، وأنشأوا لذلك الجوائز الدولية والمحلية، وأقاموا أعظم صرح لطباعة المصحف الشريف والعناية به وتوزيعه في العالم، فيفاجأ الجميع بأن أحد أفراد هذه الأسرة الحاكمة، وأمير أطهر بقعة على وجه الأرض وأحد أعمدة هذا النظام يضرب الأساس الذي قامت عليه الدولة منذ تعاهد الإمامان محمد بن سعود ومحمد بن عبدالوهاب رحمهما الله على الحفاظ على كتاب الله وبذل المهج والأرواح في ذلك.
واستمرت هذه الدولة كابراً عن كابر يتوارثون هذا المجد، حتى فجعت هذه البلاد، بل والعالم الإسلامي بهذه المصيبة العظمى والفاجعة المؤسفة بصدور قرار إغلاق حلق التحفيظ بالمنطقة الغربية (وأنا أقصد الحقيقة والمآل لا شكل القرار)، وقد توالت كتابات الغيورين حول هذا الأمر وردوا على ما أعلنه خالد الفيصل من أسباب واهية، لذا فلن أكرر ما ذُكِر، ولكن أقف هذه الوقفات التي أسأل الله أن يجعلها سبباً لرجوع هذا الرجل عن قراره، وجرأته على كتاب الله جل وعلا فأقول:
1- إن من أشهر من حال دون تدريس كتاب الله في الحرم منذ أنزل على مدار التاريخ ثلاثة:
- القرامطة عندما سفكوا الدماء في الحرم وسرقوا الحجر الأسود.
- مجموعة المسلحين الذين اقتحموا الحرم واحتلوه لعدة أسابيع عام 1400هـ.
- وأخيراً خالد الفيصل أمير منطقة مكة المكرمة وذلك عندما أصدر قرار إيقاف حلق القرآن في شهر ذي القعدة عام 1431هـ.
فهل يشرف خالد الفيصل أن يكون شريكاً لهؤلاء؟! كما سيسجله التاريخ شاء أم أبى.
2- هذا القرار إعلان للحرب على كتاب الله وأوليائه، وفي الحديث القدسي: «من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب» [رواه البخاري]، وإن لم يكن أهل القرآن من أولياء الله فمن هم أولياؤه؟!... والسعودة التي يتكئ عليها في قراره أوهن من بيت العنكبوت، بل إن هناك قراراً من وزارة الداخلية يستثني حلقات التحفيظ من السعودة والعمل عند غير الكفلاء!!
حيث جاء فيه: "سعادة مدير عام الجوازات...، بشأن طلب معالي نائب رئيس الجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم بمنطقة مكة المكرمة بعدم إلزام العاملين المتعاونين مع الجمعية بنقل كفالتهم، لأن عملهم يقتصر على الفترة المسائية فقط، وهم تحت كفالة جهات أخرى..، عليه لا مانع من ذلك، ولكم تحياتنا، التوقيع: نائب وزير الداخلية، أحمد بن عبدالعزيز" (خطاب صادر من مكتب وزير الداخلية، برقم 1/ب/4922، وتاريخ 17/5/1419هـ).
فسقطت هذه الحجة شكلاً وموضوعاً، ومن حارب الله وأولياءه فلينتظر العاقبة عاجلاً أو آجلاً.
3- ثبت في صحيح مسلم عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين»... فهنا لا خيار، إما أن يرفع الإنسان بالقرآن أو يوضع، ولا يمكن أن يقول عاقل أن من أغلق حلق التحفيظ وضيق على أهلها سيرفعه الله بالقرآن... فاختر مكانك الذي يناسبك رفعاً أو وضعاً قبل فوات الأوان وحلول الهوان: {وَمَن يُهِنِ اللَّـهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ ۚ إِنَّ اللَّـهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: من الآية 18].
4- يقول سبحانه عن الحرم: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [سورة الحج: 25]، ومن منع حلقات التحفيظ بالحرم فهو داخل في ذلك دخولاً أولياً لقوله سبحانه: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّـهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَا} [سورة البقرة: من الآية 114]، ومن أعظم الخراب هو منع تعليم كتاب الله، وتبني تراث الجاهلية كسوق عكاظ والمغنين، فانتظر يا من حاربت كتاب الله الجزاء الأوفى إن لم تستدرك الأمر وتعود.
5- بعد إغلاق حلق التحفيظ منح جراهام كوك مؤسس جائزة لقب (الشخصية الرائدة في العالم ببريطانيا) لخالد الفيصل هذه الجائزة!، وقد جاء في مبررات منح الجائزة ما يلي (تشجيع كل من أدى دوراً بارزاً أكثر من المطلوب وأهدافاً فرضت التغيير بل التغيير للأفضل).. فيا ترى هل جاءت هذه الجائزة صدفة؟!.. وفي هذا الوقت بالذات؟!... أو مكافأة له على إنجازاته التي صرح بها من منحها؟!.. وهل إغلاق حلق التحفيظ وفتح المجال لدور الجاهلية والتغريب يأتي ضمن هذه الإنجازات؟!
6- لست بحاجة إلى مزيد بيان حول هذه النازلة التي نزلت بالأمة وفي أقدس بقعة في الأرض على يد خالد الفيصل ناقضاً وهادماً لما بناه والده -رحمه الله- ، وحافظ عليه أعمامه وإخوانه أمراء المناطق فأخشى أن يكون ممن قال الله فيه: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا} [سورة النحل: من الآية 92]، فينقض ما بناه أسلافه.
7- قال -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه» [رواه البخاري]، ومفهوم المخالفة يدل على أن (شرنا) من منع تعلم القرآن وتعليمه.
8- لم نجد قراراً اجتمع العقلاء على استنكاره كهذا القرار لارتباطه بكتاب الله مما أثار بلبلة كبيرة في داخل البلاد وخارجها وأساء لسمعة المملكة، مما يستوجب المبادرة لتدارك الأمر من أولي الأمر وفقهم الله.
وختاماً: فإنني أدعو خالد الفيصل صادقاً في هذه الأيام المباركة إلى التوبة إلى الله وسرعة الرجوع عن هذا القرار الظالم مادام في العمر فسحة قبل أن يحل به عقاب الله، وأقول له (أنت ذاهب وأهل القرآن باقون)، حيث تكفل الله بحفظ كتابه ويدخل في ذلك حفظ القائمين عليه والمعلمين له، قال سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [سورة الحجر: 9]، فأدعوك إلى المبادرة إلى تدارك ما أتلفت وإصلاح ما أفسدت، وإلا فإن دعوات الصالحين في الحرم وعرفة وأيام العشر وبيوت الله لك بالمرصاد، وكم في هؤلاء من الأخيار ومجابي الدعوة.
فالله الله في المبادرة إلى التوبة والإصلاح، وإياك أن تأخذك العزة بالإثم فتكون ممن قال الله فيه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّـهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ} [سورة البقرة: من الآية 206]، وإياك أن تكون ممن قال {لَا تَسْمَعُوا لِهَـٰذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [سورة فصلت: من الآية 26]، فكانت العاقبة: {ذَٰلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّـهِ النَّارُ ۖ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ ۖ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [سورة فصلت: 28].
أعيذك بالله من أن تكون من هؤلاء فاختر لنفسك ما شئت {لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} [سورة المدثر: 37]، وصدق الله العظيم {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّـهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّـهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [سورة التوبة: 32].
حفظ الله بلادنا عقيدة ووطناً وأمناً ومجتمعاً، وحمى الله كتابه من عبث العابثين، ووفق ولاة أمورنا لما يحبه ويرضاه ورد كيد الكائدين في نحورهم.
وصلى الله وسلم على الهادي البشير وآله وصحبه أجمعين،،،
وكتب
ناصر بن سليمان العمر
الإثنين3/12/1431هـ